أحدث المشاركات

12‏/06‏/2018

المدخل المنهجي الوضعي في علم الاجتماع

المدخل المنهجي الوضعي في علم الاجتماع:






تعتبر الوضعية Positivisme من أعرق الاتجاهات النظرية والمنهجية، حيث أنها ساهمت في ظهور علم الاجتماع، وواكبت تطوراته في العصر الحديث، وحتى في عالمنا العربي، ولا تزال تلقي بظلالها على الكثير من الكتابات والدراسات السوسيولوجية.

*
تمهيد:
*
أولا - الجذور التاريخية للوضعية:
*
ثانيا-الأسس المنهجية للوضعية:
*
الحوصلة:

تمهيد:
تعتبر الوضعية، بشكل عام، نسقا فلسفيا يستند إلى التجربة والمعرفة الأمبريقية للظواهر الطبيعية. وهي تنظر إلى التفكير الميتافيزيقي والتفكير الثيولوجي (الغيي أو الديني) بوصفهما أنساقا معرفية عديمة الجدوى وغير صحيحة.
وحسب قاموس "ليتري" Littré (1863-1870): << الفلسفة الوضعية، تُقال عن نسق فلسفي ناشئ عن جملة العلوم الوضعية، ويعتبر أوجست كونت المؤسس، فهذا الفيلسوف يستعمل دوما هذا التعبير بوصفه مناقضا للفلسفة اللاهوتية والفلسفة الميتافيزيقة>> 
(Positivisme:Universalis.9/ 2003)
وحسب أوجست كونت فإن شرح طبيعة وخصائص الوضعية بشكل دقيق يجب معرفة المراحل التقدمية التي قطعها الروح العلمي، لأن مثل هذا المفهوم لا يمكن أن يفهم إلا ضمن مسار تاريخ ( [1] ).
وبعد استعراض الحالات والمراحل التي قطعها الفكر في رحلة تطوره يصل << إلى الحالة أو المرحلة الوضعية للفكر الإنساني، والتي أدرك فيها استحالة الحصول على الأفكار المطلقة، وتخلى فيها عن البحث عن أصل ووجهة العالم، ومعرفة الأسباب الحميمة للظواهر، وأصبح معنيا فقط بكشف من خلال الاستعمال المنسق بين الاستدلال والملاحظة وقوانينها الفعلية، بمعنى العلاقات الثابتة للتتابع والتشابه. وبهذا يصبح تفسير الظواهر يتم بشكل واقعي، وليس سوى ارتباطا قائم بين مختلف الظواهر الخاصة وبعض الوقائع العامة. ( [2] )>>
أولا - الجذور التاريخية للوضعية:
صحيح أن كونت هو من أول استعمل مصطلح "الوضعية" في القرن التاسع عشر، ولكن يجب التسجيل أن بعض مفاهيم الوضعية قد سبقه إليها كل من المؤرخ والفيلسوف الاسكتلندي دافيد هيـوم David Hume (1711-1776) والفيلسوف والاقتصادي"سان سيمون "(1760-1825) والفيلسوف الألماني ايمانويل كانت Kant Eminanuel (1724-1804) .
وبالإجمال يرد الكثير من الكتاب أصول الوضعية إلى عاملين اثنين وهما: ازدهار الفلسفة الأمبريقية، وتطورالمنهج العلمي، إلى جانب هذين العاملين الفكريين ساهمت في ظهور الوضعية عوامل أخرى بنيوية تمثلت أساسا في تأثر كونت بفترة الأزمة الاجتماعية والأخلاقية التي نجمت عن الثورة الفرنسية.
فقد انهار النظام القائم، على الأقل حسب الاعتقاد العام، دون أن يحل مجله نظاما آخر، ولم تستطع المجالس الثورة ولا المدير والأمبراطورية إيجاد البديل، وقد تفاقم الوضع مع الاندفاع القوي للصناعة وما رافقها من مشكلات جديدة عقّدت من المشكلة وأخّرت الحل.
فكان لا بد من انتهاء هذه المرحلة الحرجة وأن تحل محلها فترة جديدة، وبالطبع كان كومت من أكثر المنشغلين بهذا الأمر، بل أنه من شبابه كان يملك يطمح في إعادة تنظيم المجتمع، وقد ظهرت فلسفة كونت استجابة للحاجة لإعادة تنظيم المجتمع، مدفوعا بما حققه العلم من تقدم ( [3] ).
1-
ازدهار الفلسفة الوضعية:
ازدهرت الفلسفة الأمبريقية في إنجلترا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتستند هذه الفلسفة على الخبرة الحسية باعتبارها المصدر الوحيد للمعرفة؛ وهي لا تعترف بأي شكل من المعرفة القبليةApriori ؛ وتعتبر المعرفة البعدية هي المعرفة الوحيدة القابلة للتحقق من خلال الواقع ، بخلاف المعرفة القبلية التي لا سند لها من الواقع، فقد تتوافق معه وقد تشذ عنه.
ويعد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632-1704) من أبرز رواد الاتجاه الأمبريقي الذي أعطى للخبرة الحسية دورا أوليا في بناء المعرفة، مع استبعاده لأي دور للحدس أو الاستنباط في الحصول على المعرفة العلمية، فهما ليسا أدوات من أدوات المعرفة، وهو يرى أن العقل الإنساني في بداية عمر الإنسان( أو خلال الفترات الأولى من ظهوره) ليس سوى صفحة بيضاء تخط عليها الخبرة سجل المعرفة.
أما دايفيد هيوم والذي تأثر بجون لوك والفيلسوف الأرلندي جورج باركلي (1685-1753) مؤسس المثالية الحديثة أو الاتجاه اللامادي، فقد ذهب أبعد من ذلك، فإذا كان كل من لوك وباركلي يفرقان بين العقل والحس، فإن هيوم اعتبر العقل نتاجا للخبرة الحسية، كما هو الشأن بالنسبة للنفس الإنسانية، فهي-حسب قوله- : << وكغيرها من الموضوعات إذا لم أخبرها بالحواس فلا سبيل إلى علمي بها، وبالتالي فكل حديث عنها هراء. ولا ينجينا أن نقول بأن وجودها ينتج منطقيا عن كذا وكذا من المقدمات والمبادئ، لأن الاستنباط وحده يستحيل أن ينبئ بجديد عن الوجود وكائناته ( [4] )>>.
ونتيجة لهذا الموقف العلمي ولمنهجي رفض دافيد هيوم فكرة الله والنفس والسببية وكل الحقائق المعنوية.
2-
تطور المنهج العلمي:
يتمثل الرافد الثاني للوضعية في المنهج العلمي الذي يستند إلى الاستقراء والتجريب. ويعتبر الفيلسوف ورجل الدولة الأنجليزي فرانسيس بيكون Francis Bacon (1561-1626) رائد هذا الرافد، حيث كان لكتابه القانون الجديد (1620) الأثر الكبير على التطور اللاحق للاتجاه الأمبريقي.
فكما يقول كونت << إن الحِقبة التي بدأت فيها (العلوم) تُصبح وضعية بالمعنى الحقيقي للكلمة، يجب أن ترجع إلى بيكون، الذي أعطى الإشارة الأولى لهذه الثورة وإلى غاليلي، إبن عصره، الذي أعطى المثال الأول، وأخير إلى ديكارت الذي دمر نهائيا روح التسلط في المجال العلمي، وبذلك ولدت الفلسفة الطبيعية وأخذت القدرات العلمية سماتها الحقيقية، كعنصر معنوي للنظام الاجتماعي الجديد( [5] )>>
استطاع بيكون بفضل دراسته التحليلية والنقدية للتراث الفلسفي وكذا لأساليب اكتساب المعرفة المتبعة إلى غاية عصره، أن يبلور- ولأول مرة- وبشكل واضح ومحدد قواعد المنهج العلمي، و أن يسطر أهداف العلم، ولذلك اعتبره العلماء مؤسس علم التجريب الحديث. فقد أوضح بأن المنهج الأرسطي قد يساعد على تنظيم المعرفة التي تم التوصل إليها، ولكنه يصيب الفكر الإنساني بالعقم. لأنه لا يساهم في اكتشاف حقائق جديدة. كما أوضح أيضا أن على العالم أن يتخلص من الأفكار السابقة والمعتقدات الجامدة، اللذان يعتبران بمثابة الطاعون –حسب وصفه- الذي يهدد العقل الإنساني.
ومن هنا جاءت دعوته إلى ضرورة إحداث قطعية مع الماضي، وعدم الوثوق سوى في الخبرة الحسية التي بفضلها يجمع الدارس الحقائق ويحللها بواسطة العقل ليصل إلى تعميمات أو قوانين عن الظواهر الطبيعية ( [6] ).
وخلاصة للقول فإن المنهج العلمي والفلسفة الأمبريقية يمثلان الروافد الأساسية التي غذت الوضعية بالمفاهيم والأفكار إلى أن تبلورت من خلال أعمال كونت، هذا الأخير الذي كشف هذا الأخير عن هدفه بوضوح عند اختياره لهذا المصطلح. فهو يكشف عن توجهه الأيدلوجي "الإيجابي" أو "البناء" من الواقع الاجتماعي والسياسي في وقته، وأراد من خلاله أن يؤكد على أولوية إعادة تنظيم الحياة الاجتماعية بدل تقويضها.
كان النجاح الباهر الذي حققته العلوم الطبيعية، وتسارع الاختراعات العالمية دافعا إلى تبني مواقف مُغالية أدت بأصحابها إلى الشطط خاصة عند تأكيدهم على ضرورة التبني الحرفي للمناهج العلمية التي أثبتت نجاحها في العلوم الطبيعية في ميادين دراسات الظواهر الاجتماعية " حاول كونت أن يبين أن المعرفة العامة بالعلوم الطبيعية ضرورية كأساس للعلوم البيولوجية و بالتالي للمعرفة السوسيولوجية، وتصنيف أوجست الكونت للعلم يصور هذه الضرورة خير تصوير، وطبقا لما قاله يعتمد علم الاجتماع على ثلاث مناهج مباشرة هي الملاحظة، التجربة، والمقارنة"
ثانيا-الأسس المنهجية للوضعية:
كان تأخر ظهور علم الاجتماع عن بقية العلوم من العوامل التي جعلت رواد علم الاجتماع يتقنعون بضرورة تبني المناهج والخطوات التي اتبعتها العلوم الطبيعية وذلك لإحراز نفس التقدم الذي أحرزته هي في ميادينها، وهذا ما يفسر لماذا أطلق كونت على العلم الجديد مصطلح "الفيزياء الاجتماعية"، وهذا ما يفسر أيضا سبب تسرب الأفكار والمصطلحات العضوية إلى ميدان علم الاجتماع في مرحلة مبكرة من نشأته.
ولكن تجدر الإشارة إلى أن كونت بذل جهدا كبيرا لتخليص هذا العلم الجديد من التفكير الميتافيزيقي والغيبي، والانفصال عن كل الطرق الفكرية السابقة على ظهور مرحلة الوضعية.
يقول في مقدمة (18 ديسمبر 1829) كتابه دروس في الفلسفة الوضعية، في معرض تبريره لاستعمال مصطلح الفلسفة الوضعية: << إنني استعمل كلمة فلسفة بالمعنى الذي أعطاه إياه القدماء، خاصة أرسطو بوصفها تتعلق بالنسق العام للفكر الإنساني Système général des conceptions humaines، وبإضافة كلمة وضعية، فإنني أعني بها الطريقة الخاصة للتفلسف والتي تتمثل في كيفية تصور النظرية، في نطاق معين من الأفكار، تهدف إلى التنسيق بين الوقائع الملاحظة، والذي يمثل الحالة الثالثة والأخيرة للفلسفة العامة.( [7] )>>
ويشر المدلول اللغوي لكلمة "وضعية "Positivisme باللغة الفرنسية، كما يتضح من خلال القاموس المعتمد لدى الموسوعة العالمية Encyclopaedia Universalis إلى عدة معاني:
فإذا استخدمت كنعت Adjectif (1- التوكيدي، المناسب. 2- المؤكد، الملموس، الواقعي. 3- البنائي. 4- الفعلي، الذي يكشف وجود العناصر المبحوثة...)
وإذا استخدم كإسم Nom ( 1- ما هو واقعي.2- ما يقوم على التجربة، و يستند إلى وقائع. 3- قطب مغناطيسي، غير سلبي...)
وبعد كونت واصل إميل دوركايم كفاحه المستميت لتخليص العلم الاجتماعي من التفكير الميتافيزيقي، كما حاول بتخليص الوضعية من بعض التصورات والشوائب الفلسفية (مثل النزعة التطوريـة) التي علِقت بها من خلال أطروحات كونت، هذا علاوة على ما قام به من مجهود معتبر لأن تصبح العلمانية من أهم أركان الوضعية.
ويمكن أن نجمل الأسس المنهجية للوضعية في النقاط التالية:
1-
من أهم خصائص الوضعية كما يرى أوجست كونت Auguste Compte نظرتها إلى كل الظواهر باعتبارها خاضعة للقوانين الطبيعية الثابتة، بما فيها المجتمع، الذي تنظر إليه الفلسفة الوضعية، على أنه يماثل الكائن الحي إنْ من حيث بنيته أمْ من حيث نموه، فمن حيث البنية، فهو يتكون من عناصر متمايزة ومتساندة تعمل معا لتحقيق هدف مشترك، وهو بالإضافة إلى ذلك ، ومن حيث النمو، يعتبر ديناميا، أي غير ساكن، بمعنى أنه قابل للتطور مثل الكائن الحي تماما ( [8] ).
2-
يتمثل الأساس الآخر في اتخاذها للعلوم الطبيعية مثالا ونموذجا ، وبالنسبة لكونت يجب تناول كل العلوم من وجهة نظر الفلسفة الوضعية، التي تصيغ روابط بينها جميعا، بطريقة تساهم في بناء صرح المعرفة، والتي يحددها، وعلى غرار أرسطــو، بوصفها " نسقا عاما للتصورات الإنسانيـة " Système général des conceptions humaines ويتم ذلك في ضوء تاريخ الحالات الثلاث للمعرفة. 
وبهذا المعنى فإن مشروع كونت يسعى لإعادة تنظيم الحياة الاجتماعية من خلال وسائل المعرفة العلمية، بهدف تحقيق سعادة الإنسان وتحكمه في الطبيعة.
2-
اتخاذ موقف إيجابي بناء من الواقع بدل العمل على نفيه ومواجهته، فالوضعية ليست مثل الفلسفات النقدية التي تسعى لأحداث تغيير جذري للواقع، فهي تعمل على الحفاظ على هذا الوضع من خلال تأسيس وحدة عضوية ينتفي فيها الصراع، وقد أسند سان سيمون مهمة ترقية الواقع إلى النخبة العلمية.
3-
الوثوق في المصادر الحسية للمعرفة مثل الملاحظة والتجربة والمقارنة مع استبعاد كل المناهج التأملية التي ترد الوقائع إلى الاستدلال العقلي، أو تلك التي تبحث عن العلل الأولى أو الجوهر الداخلي للظواهر. فالباحث يدرس المظاهر الموضوعية باستخدام الحس بوصفه مصدرا للمعرفة. وقد بذل دوركايم دورا معتبرا لتبيان طرق دراسة وإخضاع الوقائع الاجتماعية للملاحظة والتجريب والمقارنة والتفسير على غرار العلو م الأخرى، وقد على ضرورة دراستها كما لو كانت أشياء. خارجة عن ذوات الأفراد وبمعزل عن مظاهرها الفردية، وبوصفها تمارس قهرا عليه.
الحوصلة:
ظهرت الوضعية في مرحلة حاسمة من مراحل تطور العقل الأوربي، بعد أن إنعتق العقل والمجتمع من أسْر سلطة الكنيسة، وبعد أن تتحرر من هيمنة الفلسفات المثالية التي اغترت بقدرات العقل البشـرى لدرجة متشددة.. وهكذا فظهور قد منح للعقل الأوروبي فرصة كبيرة ليعيد تنظيم قواعده المعرفية على أسس واقعية، لا تسبح في فضاء الغيبيات أو فضاء الميتافيزيقا.
غير أنها لم تخل من المغالاة والتطرف، حيث أسند كونت للمعرفة العلمية دورا مغاليا، ورأى أنه بفضلها تتحقق سعادة الإنسانية، ووصل الأمر به إلى تمجيد العلم إلى درجة التطرف والمغالاة، ولذلك يقول غاستون باشلار (1848-1962) : << فإن محاولة أنصار الترعة العلمية المغالية مواجهة الدين (والغيبيات عموما) أدى بهم إلى تعزيز صنم العالم بدل أصنام الأوهام والخرافات، وبذلك ظهرت دوجماتيكية جديدة .. دوجماتيكية جديدة تقوم على الاستقراء وتقوم على التجربة، لا على المبادئ على غرار الفلسفة.
وبالرغم من التطورات التي حدثت داخل أحشاء هذا الاتجاه، والتي صاحبها إجراء تعديلات عليه فإن هذا الاتجاه لم بفقد طابعه المُغالي. وهذا ما نلاحظه، عند استعراض الوضعية المحدثة التي يعتبر جورج لندبرج G. Lundberg من أبر روادها، وبالمثل فإن الأمبريقية المنطقية أو الذرية المنطقية بوصفها أحد إمتدادات الوضعية - التي تؤكد على المشاهدة والتجربة كمصادر للمعرفة- لم تقدم شيئا ذا شأن.
فالإضافة الجديدة التي جاء بها هذا الاتجاه هوي اعتمادها على خطاب مجرد، كما أن اهتمامه بالمنطق والرياضيات لم يشفع له من أجل أن يقدم الجديد، ولذلك نصح البعض هذا الاتجاه أن يمكث في مجال المنطق، ففي رحابه فقط يمكن أن يعثر على قوته .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

روابط الصفحات الاخرى

مدونة أرشيف العلوم الإجتماعية :

مدونة عربية شخصية مختصة في نشر كل المواضيع المتعلقة بالعلوم الإجتماعية بشتى فروعها وتخصصاتها ، سواءََ بحوث أو مقالات أو كتب .